هجرة الطيور ظاهرة تحمل العديد من الأسرار حول وقت الهجرة، ولماذا تهاجر؟ وإلى أين تذهب؟ وكيف تعرف طريقها؟!
وقد لاحظ العلماء أن الطيور وحتى التي لم تهاجر - فى بداية مرحلة النمو - عندما يحين وقت الهجرة مُعتمدة على ما يُعرف بـ "الساعة البيولوجية" التى زودها الخالق عز وجل بها تنطلق فى أسراب، علماً بأنه لم يسبق أن مرت بهذه التجربة، مما جعلهم يعتقدون أن هناك جينات ورثتها من الآباء تحدوها إلى القيام بهذه الرحلة.وقبل موعد الهجرة، تقوم الطيور كافة بتبديل الريش فيتساقط القديم ويحل بدلاً منه ريش جديد غير متقصف أو متكسر، كما تفتح شهيتها فتقبل على الغذاء بنهم مما يزيد فى وزنها إلى الضعف، وتخزن الكثير من الدهون لتتحول إلى طاقة تواجه بها مشقة الرحلة الطويلة، لذلك فإن الطائر الضعيف لا يهاجر، وإن هاجر فإنه يتعرض للموت قبل محطة الوصول، وكأن الطيور تقوم بعمل تأهب واستعداد بكل ما لديها لهذه الرحلة الشاقة المليئة بالمتاعب.
ففي كل عام وفي نفس الموعد تنطلق ملايين الطيور - وخاصة في نصف الكرة الشمالي - فى رحلة شاقة طويلة متجهة إلى نصف الكرة الجنوبي، فقارات النصف الشمالي (أوروبا - آسيا - أمريكا الشمالية) تشهد هذه الهجرة التي تنتهى - بعد أن تتجاوز الطيور خط الاستواء غالباً - بأمريكا الجنوبية وجنوب إفريقيا، فإذا حل الربيع عادت برحلة معاكسة إلى مواطنها الأصلية من أجل التزاوج.
مئات الأنواع من الطيور تقوم بالهجرة فى مواعيد مُحددة من مواطنها فى شمال أوروبا عند قدوم الشتاء ثم تعود إليه فى فصل الصيف، تجتاز فى طريقها البحار والصحارى والجبال لتصل إلى هدفها المنشود متفوقة على أعظم أجهزة البوصلة وغيرها من وسائل التكنولوجيا.
أسباب الهجرةهناك العديد من الأسباب التى تدفع الطيور إلى الهجرة، فهى تقطع رحلة شاقة وطويلة بين منطقة التزاوج شمالاً ومنطقة المشتى جنوباً. ويرجع ذلك إلى:
- اعتدال الجو شمالاً فى الربيع والصيف، وجنوباً فى الخريف والشتاء.
- تساقط الثلوج والجليد فى الشمال والذى لا يمكن أن تتحمله الطيور.
- البحث عن الطعام المناسب، فالطيور تهاجر فى الشتاء إلى الجنوب من أجل الحبوب والثمار والأعشاب والحشرات.
- وتهاجر الطيور الآكلة للأسماك مع هجرة الأسماك أينما توجهت، وتهاجر إلى الشمال فى الصيف حيث قلة الحيوانات المُفترسة والجو المناسب.
- فضلاً عن قصر النهار فى الشتاء الذى لا يتيح فرصة للطيور للبحث عن الغذاء جنوباً ، أما العودة إلى الشمال فى فصل الربيع فهو من أجل التزاوج والتكاثر، حيث يطول النهار فى نصف الكرة الأرضية الشمالي ابتداء من فصل الربيع، ويبلغ ذروته فى الصيف ما يسمح للطيور بأن تقوم بتغذية أنفسها وصغارها أطول فترة ممكنة.
- عوامل داخلية مثل إفراز بعض المواد الداخلية نتيجة تغيير درجات الحرارة والضوء، والتى تدفع الطائر لإلتهام مزيد من الطعام استعداداً للهجرة.
كيف تهاجر الطيور؟
الكثير من الطيور تهاجر ليلاً وتستريح فى وقت النهارمثل العصافير. والبعض الآخر يهاجر نهارا مثل الجوارح، وكذلك طيور "الحواضنة" التي تطير طوال النهار بدون توقف. وتعتبر طيور "السنونو" من أذكى الطيور لأنها تهاجر على السفن التى تتفق مع خط هجرتها وتأكل عليها وتتجنب مشقة الترحال.
وتختلف المسافة والسرعة من طائر إلى آخر، فبعض الطيور تقطع مسافة 2700 كيلومتر فى طيران مستمر يستغرق 60 ساعة، وبعض الطيور تقطع مسافة 14.000 كيلومتر، والبعض الآخر يسافر لمسافة تصل إلى 16.000 كيلومتر.
أما عن أطول رحلة سجلت للطيور فهى 22.000 كيلومتر من المحيط المتجمد الشمالى إلى جنوب أفريقيا، والغريب فى هذا الأمر أن الطيور التى تكون مناطق تزاوجها أبعد شمالاً تكون محطة الوصول الأبعد جنوباً والعكس صحيح، كما أن الارتفاع والسرعة تختلف من طائر إلى آخر، فمنها ما يحلق على ارتفاع 950 متراً و1600 متر و 4.000 متر وقد تحلق على ارتفاع 6.000 متر، وبسرعات تتفاوت بين 45 إلى 100 كيلومتر فى الساعة .
والطيور لا تتبع خطوط مستقيمة فى الهجرة، فهي تستخدم طرقا أطول لتفادي الطيران فوق البحار والصحارى الشاسعة، فالطيور التي تهاجر من أوروبا إلي إفريقيا لا تعبر البحر الأبيض المتوسط والصحراء الغربية بل تبتعد عنها.
تعود الطيور المهاجرة إلى المكان الذي قضت فيه فترة التفريخ أو الشتاء بعد رحلة سفر طويلة تمتد إلى الآلاف من الكيلومترات فوق الجبال والصحارى والمسطحات المائية الشاسعة.
ورغم مرور مئات السنين على متابعة هجرة الطيور، إلا أنه لا تزال عملية الاهتداء ومعرفة الطريق ومن ثم معرفة الهدف سر من أسرار الهجرة، لم يتم الكشف عنه حتى يومنا هذا، على الرغم من المحاولات المستمرة فى وضع فرضيات، ومن ثم القيام بالتجربة والمراقبة التي ترصد الطيور ابتداء بعملية "التحجيل" وهي وضع حجل أو خاتم معدني في ساق الطائر الصغير فى عشه، ومن ثم مراقبة محطات الوصول لهذه الطيور وانتهاء بأجهزة الكمبيوتر وقواعد البيانات عن طريق رصد الطيور المهاجرة بواسطة الرادارات المتقدمة.
وتتباين الآراء حول هذا الموضوع، فيعتقد البعض أن الطيور تعرف طريقها ومن ثم تحفظه فى ذاكرتها بالتعرف على الجبال والأنهار والأودية والمياه التي تمر بها خلال الرحلة، ولكن هناك اختلاف على هذا الرأي بأن الكثير من الطيور تهاجر ليلاً وفى ليال يغيب عنها القمر، كما أن الطيور التي لم تمارس تجربة الهجرة سابقا تسلك نفس الطريق دون مساعدة الكبار، أما الرأي الآخر فقد قدم فكرة تقوم على أن الطيور تعرف طريقها من الشمس نهاراً والنجوم ليلاً. وهناك من يرى أن الطيور الأكثر خبرة هي التي تقود السرب أثناء الهجرة حتى تستفيد البقية ذوات الخبرة القليلة من هذه التجربة، هذا الرأي وإن كان مقبولاً مع طيور تعيش بطريقة أسرية أو مجموعة واحدة مثل "الكرك والوز الكندي"، إلا أنها لا تنطبق على طيور أخرى تهاجر فيها الكبار قبل الصغار أو الذكور قبل الإناث.
شبكية العين وخريطة التحليق
توصل باحثون فى جامعة "أولدنبرج" الألمانية عام 2004 إلى دلائل بأن أنواعاً من الطيور المهاجرة ترى بصمات تغلغل المجال المغناطيسي للأرض على الوديان والأشجار والبراري، بعد أن تتعرف على أدق تغيرات هذا المجال بين تضاريس الأرض والطبيعة، كما يرى الإنسان كل تفاصيل الوسط المحيط به عند انعكاس الضوء على الأرض ومعالم الطبيعة.
وأضاف الباحثون أنهم وجدوا لدى الطيور - التى تهاجر بين بقاع الأرض ليلاً درءاً لوقوعها بين مخالب الطيور الكاسرة - خلايا بالقرب من شبكية العين تكون بروتينات تسمى "كريبتو كروم"، تغير تركيبها وفقا للتغيرات الحاصلة فى المجال المغناطيسى للأرض، ويعتقد أن عملية تكون هذه البروتينات فى آلاف الخلايا على الشبكية تتيح للطيور تكوين صورة أو خريطة مغناطيسية متكاملة عن الأرض التي تحلق فوقها، وترى الطيور مواقع هذه الخريطة بظلال فاتحة أو داكنة أو بالألوان التي تغطي كل موقع على الأرض.
وأشار"هنريك موريتسون" الباحث فى مجموعة ملاحة الحيوانات بالجامعة إلى أن القدرة على رؤية المجالات المغناطيسية سوف تحل الكثير من الأسئلة المطروحة حول أسرار هجرة الطيور، حيث ترصد المغناطيسية المتغلغلة بين الأشجار والصخور وكل أشياء الطبيعة الأخرى.
ومن جانب آخر قام فريق من علماء الطيور الأمريكيين بالعمل مع وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا" فى دراسة هذه الظاهرة لمعرفة تفاصيل أكثر عن حياة هذه الأنواع من الطيور، باستخدام أحد رادارات "ناسا" المتطورة التي تسمح بمتابعة حركة الطيور الاستوائية وتحديد مناطق الغذاء الحيوية وطرق الهجرة الجنوبية للطيور.
فمن جانبه قال "بارى ترويت" من منظمة الحفاظ على البيئة فى الولايات المتحدة الأمريكية إن استخدام الرادار فى دراسة الطيور المهاجرة بدأ منذ ما يقرب من 60 عاماً، لكنه انطلق فى الولايات المتحدة فقط مع استخدام أنظمة رادارات الجيل الجديد التي تستخدم فى دراسة الطقس وهطول الأمطار ومراقبة قطرات المطر أفقياً ورأسياً وتحديد حجم قطرات المطر، على اعتبار أن هذه التقنية ستمكن من مراقبة الطيور مع المطر، ويوضح الرادار الطرق التي تسلكها هذه الطيور ومواقع الغذاء التي تستخدمها.
وقال "ترويت" إن العمل يجري حاليا لتحديد المكان الذى تنشأ فيه هذه الأنواع من الطيور والأماكن التي تقضى فيها فترة الشتاء، وإنه بصرف النظر عن هجرة ما يقرب من 10-12 مليون طائر لمسافات قصيرة فإن التقديرات تقول إن هناك 5 - 6 ملايين طائر استوائى يعبر هذه المنطقة و80 % من صغارها تموت سنويا خلال هجرتهم للمرة الأولى.
مراقبة الطيور المهاجرة
ولمعرفة المعلومات عن الطيور المهاجرة حاول الإنسان منذ القدم وبطرق مختلفة لمراقبة الطيور بشكل عام والمهاجرة بشكل خاص، منها وضع العلامات لعدد من الطيور أو الأرقام على أي جزء من أجزاء جسم الطائر مثل الجناح أو الذيل، ولكن اكتشف أن لها بعض العيوب، حيث يمكن أن تضيع عندما يغير الطائر ريشه أو تختفي بسبب العوامل الجوية وخلافه، ومن ثم وضعت العلامات على رجل الطائر باستخدام معدن الألمونيوم لأنه يمكن الكتابة عليه ولا يتأثر بالعوامل الجوية.
وعادة يكتب عنوان المعهد أو المؤسسة القائمة بعملية الدراسة أو المراقبة ثم رقم خاص بالطائر، وتوضع على رجل الطائر وتكون متسعة بعض الشئ حتى لا تضر برجل الطائر، ويتم ذلك إما بوضع الحلقات والطيور صغيرة فى أعشاشها، وإما بصيدها بطرق غير مضرة ثم ترقم ويطلق سراحها، ويتم الحصول على الملاحظات عن الطيور المرقمة إذا تعرضت للموت أو تم صيدها مرة ثانية وإرسال معلومات عنها إلى العنوان المكتوب على الحلقة.
وهناك طرق حديثة للتعرف على أسرار هذه الهجرة، حيث تم ابتكار أجهزة صغيرة تشبه جهاز الفاكس تتميز بسهولة تسجيلها لمعالم الطريق ووضعها فى جسم بعض الطيور المهاجرة، هذه الأجهزة متصلة بأحد الأقمار الصناعية لتحديد موقع الطائر الذي يحمل الجهاز بين السرب المهاجر معه ثم يقوم العلماء فى مركز المتابعة باستقبال المعلومات.
أشهر الطيور المهاجرة:
تتعدد أنواع وأشكال الطيور المهاجرة سواء من الحجم أو الصفات المميزة وكثافة الريش واللون وخلافه، فهناك مثلاً:
- طيور "أبى الحناء robin" المغردة وطيور "الدج أو السمنة "thrush المغردة أيضا.
- وهناك طيور "الحدائق" المُسماة المغنى أو الشادى garden warbler.
- خطاف البحر وهو طائر بحرى من رتبة "كفيات القدم"، ومنها أنواع عديدة، تطير على مدار العام إما للتكاثر أو للهروب من فصل الشتاء فى أقصى أصقاع القطب الشمالى، وتحط أعداد كبيرة من هذه الطيور رحالها فى القرى المُمتدة على طول الساحل والتى تعتمد الصيد البحرى، حيث تقوم هذه الطيور بالبحث عن الغذاء على الشواطئ من بقايا وفضلات.
- طيور "الخرشنة" التى تهاجر من القطب الشمالى إلى الجنوبى قاطعة 10000كيلو متر, مارة من الولايات المتحدة إلى الساحل الأوروبى ثم الأفريقى، وعمره يصل إلى 10 سنوات وأنه يقطع الرحلة مرتين كل عام.
- طائر الدُّخل والذى يهاجر من كندا إلى شمال أمريكا لمسافه 5000 كيلو وطوله لا يتعدى 11سم ووزنه لا يتعدى 15 جرام.
إنفلونزا الطيور
رغم المسارات التي تسلكها الطيور المهاجرة من الشمال إلى الجنوب بوجه عام ومن الشرق نحو الغرب بالنسبة لبعض مجموعاتها، فإن مخاطر انتقال العدوى المرتبطة بإنفلونزا الطيور في المواقع التي تمضي فيها فصل الشتاء تبدو قليلة إن لم تكن معدومة، ويبقى الفيروس نشطاً عدة أسابيع فى المياه الباردة (أقل من 10 درجات مئوية)، لكنه يموت فى غضون بضع ساعات فى المياه الأكثر سخونة، فضلا عن ذلك صعوبة صمود الفيروس فى المياه شديدة الملوحة.
ولكن مع هذا أصبحت الطيور المهاجرة فيما يبدو العدو الأول لشعوب العالم منذ وصول فيروس (H5.N1) الفتاك المنتشر فى آسيا إلى الجزء الأوروبى من روسيا وتركيا ورومانيا.
في الغالب تستخدم الطيور المهاجرة مياه البرك والبحيرات فى الحصول على الماء والغذاء، وبالتالى قد تكون هذه المياه مصدراً للعدوى إذا كانت الطيور مصابة أو حاملة لفيروس الأنفلونزا، وبما أن فيروس (H5.N1) يمكنه التعايش في مياه البحيرات والبرك لمدة قد تصل إلى 3 أشهر فإن احتمالية نقل العدوى من المياه الملوثة إلى الدواجن المنزلية تظل قائمة.